ليس بالسيف وحده.. كيف انتصر صلاح الدين
«لا تظنوا أني فتحت البلاد بالعساكر إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل».. عبارة قالها صلاح الدين الأيوبي بعد أن فتح البلاد الكثيرة، وعلى رأسها بيت المقدس، في رجل لم يجاهد معه بالسيف فحسب، بل جاهد معه بالقلم.
فبعد أن تمكن السلطان صلاح الدين من فتح بيت المقدس سنة 583 هجريا، واستنقذه من أيدي الفرنج، وحرر ما حوله من البلدان والقلاع، وطهر جُل بلاد الشام من دنسهم، تعرضت بلدة عكا، وهي إحدى المدن الساحلية التاريخية، الواقعة ضمن حدود الاحتتلال الإسرائيلي اليوم، لعدوان عظيم، واجتمعت فلول الفرنج الأوروبيين من كل حدب وصوب حول المدينة حتى أحاطوا بها إحاطة الخاتم بالأصبع، فنهض السلطان الناصر، إلى المدينة ليستنقذها من أيديهم.
دارت حرب طاحنة بين الفريقيين، على حدود المدينة برا وبحرا، ونصب الفرنج المجانيق، وأتت جحافل جيوشهم من من مختلف أقطار أوروبا، وعلى رأسها إنجلترا وفرنسا وألمانيا، بالألوف، عازمين أشد العزم على أخذ عكا من أيد المسلمين، نكاية فيهم بعد فتح بيت المقدس، وتمهيدا لاحتلاله مرة أخرى عبر تلك البلدة الواقعة على ساحل البحر.
في تلك الفترة كان للناصر صلاح الدين وزيرا، هو خير وزير ومعين له، القاضي الفاضل عبدالرحيم البيساني، وهو الرجل الذي قال فيه صلاح الدين «لا تظنوا أني فتحت البلاد بالعساكر إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل».
في خضم تلك الحرب الطاحنة بين صلاح الدين والفرنج كان القاضي الفاضل نائبا له على مصر، وفي هذه الأثناء أخذ القاضي في إرسال الجيوش برا وبحرا، والمعونة إلى جيش المسلمين بفلسطين نصرة لهم على أعدائهم، ولكن ليست الجيوش وحدها هي التي كان يحتاج إليها المسلمون في تلك الحرب، بل كانوا يحتاجون إلى المدد المعنوي، ولذا لم تكُف رسائل القاضي الفاضل في الوصول إلى السلطان صلاح الدين، تشيجعا له ورفعا لهمته لنصرة المسلمين واستنقاذ بلادهم من الطغاة الأشرار.
ومن تلك الكتب والمراسلات التي كان يوفدها القاضي الفاضل إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي، كتاب يذكر فيه، أن «سبب هذا التطويل في الحصار، كثرة الذنوب، وارتكاب المحارم بين الناس، فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته، ولا يفرِّج الشدائد إلا بالرجوع إليه، وامتثال أمره، فكيف لا يطول الحصار، والمعاصي في كل مكان فاشية، وقد صعد إلى الله منها، ما يُتوقع بعده الاستعاذة منها».
وتابع في بعض كتبه: «أنه قد بلغه أن بيت المقدس، قد ظهر فيه المنكرات والفواحش والظلم في بلاده، ما لا يمكن تلافيه، إلا بكلفة كثيرة».
ومنها كتاب يقول فيه: «إنما أُتينا من قِبَلِ أنفسنا، ولو صدقنا لعجّلَ الله لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدُونا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره، لفعل لنا ما لا نقدر عليه، إلا به، فلا يختصم أحد، إلا نفسه، وعمله، ولا يرج إلا ربه، ولا يغتر بكثرة العساكر، والأعوان، ولا فلان الذى يعتمد عليه أن يقاتل، ولا فلان، فكل هذه مشاغل عن الله، ليس النصر بها، وإنما النصر من عند الله، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها، والنصر به واللطف منه، ونستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا، لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل، ولكن فى الطريق عائق، خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق».
ومن كتاب آخر يتألم فيه من الضعف الذي أصاب جسم السلطان صلاح الدين، بسبب ما حمل على قلبه، مما هو فيه من الشدائد أثابه الله بقوله: «وما فى نفس المملوك شائنة، إلا بقية هذا الضعف، الذى فى جسم مولانا فإنه بقلوبنا، ونفديه بأسماعنا».
وعلى منوال المثل القائل بأن «خلف كل عظيم امرأة عظيمة»، فإن خلف كل بطل شجاع في ميدان المعركة، بطل يجاهد معه بالسلاح وبالكلمة.
المصدر: كتاب البداي والنهاية لابن كثير
اقرا ايضا: https://alenferad.com/2025/07/11/حكم-من-حج-ولم-يزر-قبر-النبي-أمين-الفتوى
https://alenferad.com/2025/08/25/أم-معبد-الخزاعية-قصة-المرأة-التي-وصفت .