في بلدة بوليناو الصغيرة الواقعة شمال العاصمة الفلبينية مانيلا بنحو 300 كيلومتر، تجلس إحدى نساء الفلبين البالغة من العمر 61 عامًا، لساعات طويلة داخل كوخ خشبي فوق مياه ضحلة، تراقب مزارع خيار البحر التي كانت يومًا تعج بالحياة البحرية.
كنز اقتصادي وبيئي مدفون في الأعماق
خيار البحر، هذه الكائنات البحرية الغريبة الشكل، التي تُعرف محليًا باسم «بلات»، وبيئيًا باسم «منظفات البحر»، هي من أقارب نجم البحر وقنفذ البحر، ويعتبرها الكثير من الأطعمة الفاخرة في مطابخ شرق آسيا، وخاصة الصين، كما يُستخدم لأغراض طبية.
يبلغ سعر الكيلوجرام الواحد من الأنواع اليابانية الفاخرة من خيار البحر، أكثر من 1,700 دولار، أما في بوليناو، فتُربى أنواع أقل سعرًا، مثل Holothuria scabra، لكنها تظل ذات قيمة اقتصادية كبيرة، إذ يُباع الكيلو منها بين 220 إلى 1,080 دولارًا حسب الحجم.
لكن بالنسبة لكاسي الفلبينية وزميلاتها، القيمة الحقيقية لا تكمن في المال فقط، بل في الدور البيئي الحاسم الذي يلعبه خيار البحر في الحفاظ على صحة النظام البيئي البحري.
اقرأ أيضا: العواصف تكشف كنوزا مخبأة تحت البحر.. الغواصون على موعد معها
تقول كاسي: “نحن لا نهتم كثيرًا بالحصاد، بل نهتم بزيادة أعدادها.. فعندما كنت صغيرة، كانت هذه الكائنات منتشرة بكثرة، لكن الآن أصبحت نادرة، ونريد استعادتها لتتكاثر من جديد”.
بداية الحكاية: الانهيار ثم النهوض
في ثمانينيات القرن الماضي، كان الصيادون في بوليناو وجزيرة أندا القريبة يجمعون حتى 100 كجم من خيار البحر يوميًا، لكن بحلول 2002، تدهور الصيد إلى أقل من 3 كجم يوميًا بسبب الصيد الجائر، المياه التي كانت تعجّ بهذه الكائنات أصبحت شبه خالية.
بدأت محاولة إنقاذ خيار البحر في عام 2007، عندما تعاونت جامعة الفلبين، ممثلة بالباحثة أنيت مينيز من معهد العلوم البحرية، مع مجتمع الصيادين المحليين في بوليناو، شارك زوج كاسي الراحل، “كا أرتيم”، في المشروع كقائد للفريق المحلي، واليوم تواصل كاسي مسيرته.
من البيض إلى البحر
ووفقا لـBBC تبدأ دورة حياة خيار البحر في مختبرات الجامعة، حيث تُنتج اليرقات التي تنمو حتى تصبح بطول حبة أرز 4 مم، بعدها تُسلّم للصيادين لتُربى داخل شباك بحرية معلّقة حيث تتغذى على الطحالب، وبعد أن تصل إلى حجم مناسب، وهو 3 جرامات، تُنقل إلى حضانات بحرية طبيعية على مساحة هكتار واحد لمدة تصل إلى 6 أشهر.
وعندما تكتسب الوزن المناسب للبيع، وهو حوالي 320 جرامًا، تُنقل إلى المزرعة البحرية الكبرى التي تبلغ مساحتها 5 هكتارات، وهناك تعيش مع غيرها وتتكاثر طبيعيًا. تكرّر هذه الدورة مرتين في السنة.
اقرأ أيضا: جينوم أقدم رجل مصري يكشف معلومات مثيرة عن أصوله
تقول كاسي: “كنت أساعد في تثبيت الألواح الخشبية لتحديد حدود المزرعة.. كنا نعمل نحن النساء معًا في نصب الشباك وحراسة الأقفاص حتى في الليل”.
نتائج مشجعة: من 400 إلى 5,500 خيار بحر
في غضون 19 شهرًا من إطلاق اليرقات الأولى عام 2007، زاد عدد خيار البحر من 400 إلى أكثر من 5,500. وارتفع عدد البالغين القادرين على التكاثر من 37 إلى 249 في الهكتار الواحد، ما أدى إلى حدوث حالات “تفريخ جماعي” نادرة في البرية.
وبحسب آخر البيانات في 2024، تبلغ الكثافة السكانية في المزرعة 4,415 خيار بحر، أو 883 لكل هكتار.
وما هو أكثر إثارة، أن الباحثين في جامعة الفلبين استخدموا صبغة خاصة في تجربة عام 2018 لتحديد ما إذا كان خيار البحر ينتج أجيالًا جديدة في البرية، بعد 21 شهرًا، وجدوا 34 خيار بحر جديد لم يحمل الصبغة، مما يشير إلى تكاثر طبيعي ناجح.
الأثر البيئي: تنظيف البحر وإحياء الحياة
إلى جانب تكاثر خيار البحر، لاحظ السكان عودة أنواع بحرية أخرى، إذ تقول “جيما كانديلاريو” و”ماريفيك كارولينو”، وهما سيدتان تعملان في زراعة أشجار المانغروف، إنهما شهدتا زيادة في عدد الأسماك، والسرطانات، والروبيان بعد إطلاق خيار البحر في منطقتهما منذ عام 2022.
اقرأ أيضا: «سان مارينو».. دولة صغيرة بحجم قلعة في قلب إيطاليا يحكمها رئيسان
وتضيف جيما أن خيار البحر يأكل النفايات، لذا تصبح البيئة أنظف، وهذا ما يجذب المزيد من الأسماك لوضع البيض”.
كما أن خيار البحر يعزز صحة الشعاب المرجانية، ويقلل من الأمراض التي قد تصيبها، وهو ما يساعد في حماية الشواطئ ومصائد الأسماك والسياحة.
تحديات مستمرة
رغم النجاح، يواجه المشروع تحديات كبرى، من أبرزها الأعاصير التي تبعثر خيار البحر خارج المزرعة، مما يعيق الحصاد. كذلك، تعاني المجتمعات من الصيد غير المشروع من غرباء.
تقول كارولينو: “أمسكت بشخص من خارج قريتنا يسرق خيار البحر واضطررت لمواجهته.. بعضهم يعود في اليوم التالي رغم التحذيرات.”
حكاية نساء يعِدن الحياة إلى البحر
تمثل هذه المبادرة مثالًا حيًا على كيف يمكن للنساء في المجتمعات الساحلية أن يقدن العمل البيئي والعلمي في آنٍ واحد.
فبفضل تعاون بين العلم والمجتمع، وبين النساء والبحر، أُعيدت الحياة إلى مياه بوليناو، واكتسبت هذه الكائنات اللزجة، التي يراها البعض بلا قيمة، دورًا بطوليًا في حماية كوكبنا.